الرأي الشرعي في "القاعدة الذهبية" للجماعة

نلاحظ في كتب وأدبيات وبيانات وتصريحات جماعة الإخوان المسلمين تكرار عبارة: (نتعاون مع بعضنا في ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه) التي تعتبر القاعدة الذهبية لمنهجية عملهم الحركي عموماً.

وقد أجاب يوسف القرضاوي[1] بتاريخ 01/01/2015 على سؤال: قرأت لكم في أكثر من كتاب، وسمعتكم في أكثر من محاضرة تدعون إلى القاعدة التي تقول: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه". فمن الذي وضع هذه القاعدة في صيغتها هذه؟ وهل لها دليل من الشرع؟ وكيف نتعاون مع المبتدعين والمنحرفين؟ وكيف نعذر من يخالفنا إذا كان هو مخالفًا للنصوص من الكتاب والسنة؟ أليس مطلوبًا منا أن ننكر عليه ونهجره، بدل أن نسامحه ونعذره؟ أليس القرآن الكريم يقول: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (النساء: 59)؟ فلماذا لا نرد هذا المخالف إلى الكتاب والسنة، وهو المراد بالرد إلى الله والرسول، بدل أن نلتمس له العذر، وأي عذر له في مخالفة النص؟ أصارحكم أن الأمر قد التبس علينا، وغدونا في حاجة إلى توضيح معالمه وإقامة الأدلة عليه، وأنتم لذلك أهل بما أفاء الله عليكم، فلا تضنوا على إخوانكم وأبنائكم بذلك، ولكم منا الشكر، ومن الله الأجر.

الذي وضع القاعدة المذكورة: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه" في هذا الصيغة هو العلامة السيد رشيد رضا -رحمه الله- زعيم المدرسة السلفية الحديثة، وصاحب "مجلة المنار" الإسلامية الشهيرة، وصاحب "التفسير" و"الفتاوى" والرسائل والكتب التي كان لها تأثيرها في العالم الإسلامي كله، وقد أطلق عليها: "قاعدة المنار الذهبية"، والمقصود منها: "تعاون أهل القبلة" جميعًا ضد أعداء الإسلام.

ولم يضع السيد رشيد هذه القاعدة من فراغ، بل الذي يظهر للمتأمل أنه إنما استنبطها من هداية الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، وإملاء الواقع وظروفه وضروراته، وحاجة الأمة الإسلامية إلى التلاحم والتساند في مواجهة أعدائهم الكثيرين، الذين يختلفون فيما بينهم على أمور كثيرة، ولكنهم يتفقون على المسلمين وهو ما حذر منه القرآن أبلغ التحذير: أن يوالي أهل الكفر بعضهم بعضًا، ولا يوالي أهل الإسلام بعضهم بعضًا، يقول تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (الأنفال: 73).

ومعنى (إلا تفعلوه): أي إن لم يوال بعضكم بعضًا ويساند بعضكم بعضًا كما يفعل أهل الكتاب في جانبهم، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير؛ لوجود التماسك والتلاحم والموالاة بين الكفار، في مقابلة التفرق والتخاذل بين المسلمين.

فلا يسع أي مصلح إسلامي إلا أن يدعو أمة الإسلام إلى الاتحاد والتعاون، في مواجهة القوى المعادية لهم، المتعاونة عليهم، وهي قوى عاتية جبارة، وأن ينسوا خلافاتهم الجزئية، من أجل القضايا المصيرية، والأهداف الكلية.

وهل يملك عالم مسلم يرى تعاون اليهودية العالمية، والصليبية الغربية، والشيوعية الدولية، والوثنية الشرقية، خارج العالم الإسلامي - إلى جوار الفرق التي انشقت عن الأمة ومرقت عن الإسلام، داخل العالم الإسلامي - إلا أن يدعوا أهل القبلة الذين التقوا على الحد الأدنى من الإسلام، ليقفوا صفًا واحدًا في وجه هذه القوى الجهنمية التي تملك السيف والذهب، وتملك قبلهما المكر والدهاء والتخطيط، لتدمير هذه الأمة ماديًا ومعنويًا؟!

ولهذا رحب المصلحون بهذه القاعدة، وحرصوا على تطبيقها بالفعل، وأبرز من رأيناه احتفل بها الإمام الشهيد حسن البنا، حتى ظن كثير من الإخوان أنه هو واضعها.

أما كيف نتعاون مع المبتدعين والمنحرفين، فالمعروف أن البدع أنواع ومراتب. فهناك البدع المغلظة، والبدع المخففة، وهناك البدع المكفرة، والبدع التي لا تخرج صاحبها عن الملة، وإن حكمنا عليه بالابتداع والانحراف.

ولا مانع أن نتعاون مع بعض المبتدعين فيما نتفق عليه من أصول الدين ومصالح الدنيا، ضد من هم أغلظ منهم في الابتداع، أو أرسخ في الضلال والانحراف، وفقًا لقاعدة ارتكاب أخف الضررين.

والكفر نفسه درجات، فكفر دون كفر، كما ورد عن الصحابة والتابعين. ولا مانع من التعاون مع أهل الكفر الأصغر، لدرء خطر الكفر الأكبر. بل قد نتعاون مع بعض الكفار والمشركين - وإن كان كفرهم وشركهم صريحًا مقطوعًا به - دفعا لكفر أشد منه عداوة أو خطرًا على المسلمين.

وفي أوائل سورة الروم، وما عرف من سبب نزولها: ما يشير إلى أن القرآن اعتبر النصارى - وإن كانوا كفارًا في نظره - أقرب إلى المسلمين من المجوس عبدة النار، ولهذا حزن المسلمون لانتصار الفرس المجوس أولاً على الروم من نصارى بيزنطة، على حين كان موقف المشركين بالعكس؛ لأنهم يرون المجوس أقرب إلى عقيدتهم الوثنية.

فنزل القرآن يبشر المسلمين أن هذا الوضع سيتغير، وتتجه الريح لصالح الروم في بضع سنين، (ويؤمئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) (الروم: 4،5). يقول القرآن: (آلم غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) (الروم: 1 -5).

وقد استعان النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد فتح مكة ببعض مشركي قريش في مواجهة مشركي هوازن، وإن كان شركهما في درجة واحدة، لما لمشركي قريش من الصلة النسبية الخالصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وحميتهم له من ناحية العصبية، حتى قال صفوان بن أمية قبل أن يسلم: لأن يربني - أي يسودني - رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن!

وأهل السنة - رغم تبديعهم للمعتزلة - لم يمنعهم ذلك أن يستفيدوا من إنتاجهم العلمي والفكري، في المواضع المتفق عليها، كما لم يمنعهم ذلك أن يردوا عليهم فيما يرونهم خالفوا فيه الصواب، وحادوا عن السنة. وأبرز مثل لذلك كتاب "الكشاف" في التفسير للعلامة الزمخشري، وهو معتزلي معروف، ولكن لا نجد عالمًا من بعده ممن له اهتمام بالقرآن وتفسيره إلا أخذ منه وأحال عليه، كما هو واضح في تفاسير الرازي والنسفي والنيسابوري وي  وأبي السعود والألوسي وغيرهم. ولأهميته عندهم نجد رجلاً كالحافظ ابن حجر يخرج أحاديثه في كتاب سماه "الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف"، ونجد العلامة ابن المنيّر يؤلف كتابًا في التعقيب عليه، خصوصًا في مواضع الخلاف يسميه "الانتصاف من الكشاف".

والإمام أبو حامد الغزالي حين رد على الفلاسفة، الذين كانت أقوالهم فتنة لكثير من الناس، حتى غدت أصلاً تحاكم إليه نصوص القرآن والسنة، فإن وافقته فبها، وإلا أعمل فيها مشرط التأويل، مهما تكن قاطعة الدلالة. أقول: حين قام بهذه المهمة استعان عليها بكل الفرق الإسلامية التي لم تبلغ درجة الكفر، ولهذا لم يجد حرجًا أن يأخذ من المعتزلة وأمثالهم ما ينقض به قول الفلاسفة، وقال في ذلك في مقدمة "التهافت": (ليعلم أن المقصود تنبيه من حسن اعتقاده في الفلاسفة، وظن أن مسالكهم نقية عن التناقض، ببيان وجوه تهافتهم، فلذلك أنا لا أدخل عليهم إلا دخول مطالب منكر، لا مدع مثبت، فأكدر عليهم ما اعتقدوه، مقطوعًا بإلزامات مختلفة، فألزمهم تارة مذهب المعتزلة، وأخرى مذهب الكرامية، وطورًا مذهب الواقفية، ولا أنتهض ذابًا عن مذهب مخصوص، بل أجعل جميع الفرق إلبًا واحدًا عليهم، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم، فعند الشدائد تذهب الأحقاد) (من المقدمة الثالثة للتهافت).

والأخ الذي يقول: كيف نعذر من يخالفنا إذا كان هو مخالفًا للنص القرآني أو النبوي، والله تعالى يقول: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (النساء: 59). ؟ هذا الأخ غاب عنه أمر مهم، هو: أن النصوص تختلف في ثبوتها ودلالتها اختلافًا كبيرًا من حيث القطعية والظنية.

فمن النصوص ما هو قطعي الثبوت كالقرآن الكريم، والأحاديث المتواترة،وهي قليلة، وألحق بعض العلماء بها أحاديث الصحيحين التي تلقتها الأمة بالقبول، واحتفت بها القرائن المتنوعة، حتى أصبحت تفيد العلم اليقيني، ونازعهم في هذا آخرون، ولكل أدلته. ومنها ما هو ظني الثبوت، وهو جمهرة الأحاديث من الصحاح والحسان التي رويت في كتب السنن والمسانيد والمعاجم والمصنفات المختلفة.

وفي دائرة الظنية تتفاوت درجات الحديث ما بين الصحة والحسن، بالذات أو بالغير، تبعًا لتفاوت الأئمة في شروط التوثيق والتصحيح للحديث، من حيث السند أو المتن، أو كلاهما، فقد يقبل أحدهم المرسل ويحتج به، وقد يقبله آخر بشروط، وقد يرفضه غيره بإطلاق. وقد يوثق أحدهم راويًا، هو عند غيره ضعيف. وقد يشترط بعضهم شروطًا خاصة في موضوعات معينة تتوافر الدواعي على نقلها، فلا يكفي فيها نقل فرد، وهذا ما جعل بعض الأئمة يقبل بعض الأحاديث، ويستنبط منها أحكامًا، في حين يردها إمام آخر لأنها لم تثبت لديه، ولم تستوف الشروط التي بها يغدو الحديث عنده صحيحًا، أو عارضها عنده معارض أقوى منها، كأن يكون العمل على خلافها.

والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر، يعرفها الدارسون لأحاديث الأحكام، وللفقه المقارن، وللفقه المذهبي في كتبه التي تعنى بالتدليل للمذهب والرد على المخالفين.

وكما تختلف النصوص في ثبوتها، تختلف أكثر وأكثر في دلالتها. فمن النصوص ما هو قطعي الدلالة على الحكم، بحيث لا يحتمل النص وجهًا آخر للفهم والتفسير، كدلالة النصوص الآمرة بالصلاة والزكاة والصيام والحج على فرضيتها، ودلالة النصوص الناهية عن الزنا والربا وشرب الخمر ونحوها على حرمتها، ودلالة معظم النصوص القرآنية التي وردت في تقسيم المواريث. وهذا النوع من النصوص قليل جدًا. ومن النصوص ما هو ظني الدلالة، على معنى أنها تحتمل أكثر من وجه في فهمها وتفسيرها. فقد يفهمه بعض العلماء على أنه عام وهو عند غيره مخصوص. أو على أنه مطلق، وهو في نظر الآخرين مقيد. أو على أنه حقيقة وغيره يراه من باب المجاز. أو على أنه محكم وهو في رأي آخر منسوخ. أو على أنه يفيد الوجوب وسواه لا يجاوز به الاستحباب. أو على أنه يدل على الحرمة، والآخر لا يرى في دلالته أكثر من الكراهية.

والقواعد الأصولية التي قد يظن البعض أنها كافيه ليرجع الجميع إليها، فيحسم الخلاف، وينقطع النزاع، هذه القواعد ذاتها هي موضع خلاف في كثير من جوانبها، ما بين مثبت وناف، ومطلق ومقيد. خذ مثلاً: دلالة الأمر، هل تفيد صيغة الأمر الوجوب؟ أو الاستحباب؟ أو ما هو مشترك بينهما؟ أو لا تفيد شيئًا إلا بقرينة؟ أم يختلف أمر القرآن عن أمر السنة؟ الخ. سبعة أقوال ذكرها الأصوليون في دلالة الأمر، ولكل قول دليله ووجهته. فإذا جاء حديث مثل: "أحفوا الشوارب، ووفروا اللحى"، أو حديث: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم"، أو حديث: "من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له"، أو حديث: "سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك". فهل هذه الأوامر تفيد الوجوب أو الاستحباب أو الإرشاد؟ أو كل أمر منها له حكمه الخاص بدلالة السياق والقرائن؟ ومثل ذلك يقال في دلالة النهي: هل تفيد بصيغته التحريم أو الكراهية أو ما هو مشترك بينهما أم لا تفيد شيئًا إلا بقرينة خاصة أو يختلف النهي في القرآن عن النهي في السنة؟

سبعة أقوال أيضًا حفلت بها كتب الأصول.

وهناك الاختلاف في العام والخاص والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والمحكم والمنسوخ.. الخ.

وحتى ما اتفق عليه من ناحية المبدأ، قد يختلف عليه من جهة التطبيق، فقد يتفق الطرفان على جواز النسخ ووقوعه، ولكنهما يختلفان في نص معين: هل هو منسوخ أم لا؟ كما في حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم "، وحديث وقوع طلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة فقط في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر، وصدر خلافة عمر.

وقد يتفق الطرفان على أن النبي صلى الله عليه وسلم يصدر عنه بعض الأقوال والتصرفات بصفة الإمامة والرياسة للأمة، وهذه لا تكون من التشريع العام الدائم للأمة ولكنهما يختلفان في قول معين أو تصرف معين أهو من هذا الباب أم لا؟ وذلك مثل ما ذكره الإمام القرافي في كتابيه: "الفروق " و"الأحكام" من التمثيل بقوله عليه الصلاة والسلام: "من قتل قتيلاً فله سلبه"، وقوله: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له": أَصَدر عنه هذا بصفة التبليغ عن اللّه، فيعتبر هذا من التشريع العام الدائم؟ أم صدر عنه بصفته إمام المسلمين ورئيس دولتهم، وقائدهم الأعلى في معاركهم فلا ينفذ حكمها إلا إذا صدر عن القائد أو الإمام؟

اختلف الفقهاء في تكييف ذلك، فاختلفت لذلك أحكامهم.

وقد يتفقان على أن من أقواله وتصرفاته صلى الله عليه وسلم ما ليس من باب التشريع الديني المتعبد به، بل هو من أمر الدنيا الموكول إلى تقدير البشر واجتهادهم، كما قال في الصحيح: " أنتم أعلم بأمر دنياكم " ولكنهما يختلفان في قول أو تصرف معين: أهو من أمر الدنيا الذي لا نلزم باتباعه، أم من أمر الدين الذي لا يجوز لنا الخروج عنه؟

ومن ذلك الوصفات الطبية التي جاءت في عدد من الأحاديث، واعتبرها الإمام الدهلوي من أمر الدنيا، على حين بالغ آخرون فاعتبروها دينًا وشرعًا مطاعًا.

وهناك سبب من أهم الأسباب للخلاف في تفسير النصوص وفهمها، وهو الخلاف ما بين مدرسة "الظواهر" ومدرسة " المقاصد "، أعني المدرسة التي تقف عنـد ظواهر الألفاظ، وتتقيد بحرفية النص في فهمها، وفي مقابلها المدرسة التي تهتم بالفحوى، وبروح النص ومقصده، فقد تخرج عن ظاهر النص وحرفيته، تحقيقًا لما ترى أنه مقصد النص وهدفه. وهاتان المدرستان موجودتان في الحياة في كل الأمور، وفي القوانين الوضعية أيضًا نجد الشراح يختلفون كذلك ما بين مدرسة اللفظ ومدرسة الفحوى، أو بين المضيقين والموسعين.

والإسلام لأنه دين واقعي وسع المدرستين جميعًا، ولم يعتبر إحداهما خارجة عن الإسلام، وإن كانت مدرسة " المقاصد " في رأينا هي المعبرة عن حقيقة الإسلام، بشرط ألا تهمل النصوص الجزئية إهمالاً كليًا. وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يؤيد قبول هذا النوع من الاختلاف، وذلك في الواقعة الشهيرة، وهي واقعة صلاة العصر في بني قريظة، بعد غزوة الأحزاب. روى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لايصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدًا منهم (رواه البخاري في: "كتاب المغازي" باب " مرجع النبي من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة "، (4119) الفتح، ورواه مسلم أيضًا في: الجهاد (1770) وجعل الصلاة هي الظهر، وقد روي الحديث من طريق كعب بن مالك وعائشة وفيه: أن الصلاة العصر. كما في الفتح 7/408،409).

قال العلامة ابن القيم في "زاد المعاد ": (واختلف الفقهاء: أيهما كان أصوب؟ فقالت طائفة: الذين أخروها هم المصيبون، ولو كنا معهم لأخرناها كما أخروها، ولما صليناها إلا في بني قريظة امتثالاً لأمره، وتركًا للتأويل المخالف للظاهر. وقالت طائفة أخرى: بل الذين صلوها في الطريق في وقتها حازوا قصب السبق، وكانوا أسعد بالفضيلتين، فإنهم بادروا إلى امتثال أمره في الخروج، وبادروا إلى مرضاته في الصلاة في وقتها، ثم بادروا إلى اللحاق بالقوم، فحازوا فضيلة الجهاد، وفضيلة الصلاة في وقتها، وفهموا ما يراد منهم، وكانوا أفقه من الآخرين، ولا سيما تلك الصلاة، فإنها كانت صلاة العصر وهي الصلاة الوسطى بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح الذي لا مدفع له ولا مطعن فيه، ومجيء السنة بالمحافظة عليها، والمبادرة إليها، والتبكير بها، وأن من فاتته فقد وُتِر أهله وماله، أو قد حبط عمله (أخرجه البخاري 2/26،53 من حديث بريدة بلفظ: " من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله "، وأخرجه مسلم (626) من حديث ابن عمر بلفظ: " الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله " وهو في البخاري 4/24)، فالذي جـاء فيها أمر لم يجئ مثله في غيرها، وأما المؤخرون لها، فغايتهم أنهم معذورون بل مأجورون أجرًا واحدًا، لتمسكهم بظاهر النص، وقصدهم امتثال الأمر، وأما أن يكونوا هم المصيبين في نفس الأمر، ومن بادر إلى الصلاة وإلى الجهاد مخطئًا، فحاشا وكلا، والذين صلوا في الطريق جمعوا بين الأدلة وحصلوا الفضيلتين، فلهم أجران، والآخرون مأجـورون أيضًا رضي اللّه عنهم) (زاد المعاد 3/131).

والمقصــود بعد هذا كله أن نقول: إن من خالفنـا في نص قطعي الثبـوت والدلالـة لا يستحق منا أن نعذره بحال، لأن القطعيات لا مجـال فيها للاجتهاد، وإنما مجـاله الظنيات، وفتح باب الاجتهاد في القطعيات إنما هو فتح لباب شر وفتنة على الأمة لا يعلم عواقبها إلا اللّه تعالى؛ لأن القطعيات هي التي يرد إليها عند التنازع، وهي التي تحكَّم عند الاختلاف، فإذا أصبحت هي موضع تنازع واختلاف، لم يبق في أيدينا شيء نحتكم إليه، ونعول عليه!

وقد نبهت في أكثر من كتاب لي إلى أن من أشد الفتن والمؤامرات الفكرية خطرًا على حياتنا الدينية والثقافية، تحويل القطعيات إلى ظنيات، والمحكمات إلى متشابهات.

بل قد تكون المخالفة في بعض القطعيات من الكفر البواح، وذلك ما بلغ منها المرتبة التي يسميها علماؤنا «المعلوم من الدين بالضرورة» وهو ما اتفقت الأمة على حكمه، وتساوى في معرفته الخاص والعام، مثل فرضية الزكاة والصيام، وحرمة الربا وشرب الخمر، ونحوها من ضروريات دين الإسلام.

أما من خالفنا في نص ظني، لسبب من الأسباب التي ذكرناها أو ما شابهها مما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام "، وقد ذكر فيه عشرة أسباب أو أعذار، تجعل الإمام من الأئمة لا يأخذ بنص أو بحديث معين، وهذا من عظيم فقهه وإنصافه -رضي اللّه عنه- فهذا نعذره وإن لم نوافقه على رأيه.

فهكذا ينبغي أن يكون موقفنا، وهو موقف التسامح مع المخالفين ما دام لهم مستند، يعتمدون عليه، ويطمئنون إليه، وإن خالفناهم نحن في ترجيح ما رجحوه.

فكم من قول اعتبر في وقت من الأوقات ضعيفًا أو مهجورًا، أو شاذًا، ثم هيأ اللّه له من ينصره ويقويه ويشهره، كما رأينا ذلك بجلاء في أقوال الإمام إبن تيمية، ومدرسته السلفية، وخصوصًا في مسائل الطلاق وما يتعلق بها، فقد ارتضاها الكثيرون من علماء المسلمين ولجان فتاواهم، وأصبحت هي عمدتهم، وأنقذ اللّه بها الأسرة المسلمة من الدمار والانهيار، وكانت إلى عهد قريب مثالاً للشذوذ والشرود عن الصواب، حتى في داخل المملكة العربية السعودية.

وأجاب موقع الفتوى في موقع إسلام ويب[2] على سؤال: هل يعتبر قول حسن البنَّا ‏(نتعاون مع بعضنا في ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه) صحيحاً؟

العبارة المذكورة تنسب للشيخ رشيد رضا صاحب المنار، ثم ذكرها الشيخ حسن البنا في رسائله حتى ظن كثير من الناس أنها من إنشائه.

والشق الأول من العبارة وهو: (نتعاون فيما اتفقنا عليه) يراد به أن يتعاون المسلمون على النهوض بالقيام بأمور الخير التي لا يختلفون في مشروعيتها. وهذا من التعاون الواجب الذي فرضه الله تعالى في محكم كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه، وسلم حيث يقول الله تعالى:وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2]  ولا يظن بقائل هذه العبارة أنه يريد أن يتعاون المسلمون فيما اتفقوا عليه ولو كان باطلاً، فهذا مستحيل طبعاً وشرعاً لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة. رواه الترمذي وصححه الألباني.

وأما الشق الثاني وهو قوله: (ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه) فإنه قد يحمل على محمل محمود، وقد يحمل على محمل مذموم، لأن إعذار المخالف يتوقف على نوع المخالفة، فليس كل خلاف يعذر صاحبه، بل ينظر في خلافه، فإن كان سائغاً مقبولا عذر فيه، وإن كان غير سائغ كخلاف الفرق الضالة وأصحاب البدع من غلاة الصوفية وغيرهم، وكذلك خلاف النص الصريح أو الاجماع الصحيح فإن صاحبه لا يعذر، بل يجب أن ينكر عليه ويحذر من بدعته ومخالفته.. إذ لو عذر المخالف خلافاً لا يستند إلى حظ من النظر لتعطلت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولالتبس الحق بالباطل، والمعروف بالمنكر، والسنة بالبدعة.. ولا يخفى ما في ذلك الفساد. وحتى الخلاف المعتبر فالإعذار فيه لا يمنع الحوار بين المختلفين لبيان الحق ووجه الصواب دون تأثيم أو تشنيع على المخالف، وعلى هذا درج علماء الأمة من السلف والخلف.

ولا يظن بالشيخين رضا والبنا إلا أنهما قصدا الإعذار في الخلاف السائغ المذموم، فقد قال حسن البنا في رسائله في الأصل الثامن من أصوله العشرين: والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سبباً للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء، ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف، في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب.

وقد كان لعدة علماء رأي شرعي واضح بهذه "القاعدة الذهبية" الإخوانية في "المعذرة والتعاون" ونبهوا منها ومن سلبياتها[3]، ومنهم الشيخ محمد بن صالح العثيمين[4] الذي قال في إحدى الفتاوي له المنشورة ‏في "سلسلة لقاء الباب المفتوح" (شريط 75) :

فقولهم: (نجتمع فيما اتفقنا فيه)، فهذا حق، وأما قولهم: (ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه)، فهذا فيه تفصيل: فما كان الاجتهاد فيه سائغًا، فإنه يعذر بعضنا بعضًا فيه، ولكن لا يجوز أن تختلف القلوب من أجل هذا الخلاف. وأما إذا كان الاجتهاد غير سائغ، فإننا لا نعذر من خالف فيه، ويجب عليه أن يخضع للحق. فأول العبارة صحيح، وأما آخرها فيحتاج إلى تفصيل). "الصحوة الإسلامية : ضوابط وتوجيهات": (1/218). وقال أيضاً مجيبًا على سؤال عن تلك القاعدة الإخوانية في عملهم الحركي: "هذه القاعدة الذهبية ليست قاعدة ذهبية ولا تستحق أن تكون قاعدة، بل ما اتفقنا فيه فهو من نعمة الله عز وجل، والاتفاق خير من الاختلاف، وما اختلفنا فيه فقد يعذر فيه المخالف وقد لا يعذر، فإذا كان الاختلاف في أمر يسوغ فيه الاختلاف فهذا لا بأس به، ولا زال الأئمة يختلفون، فالإمام أحمد والشافعي ومالك وأبو حنيفة كلهم يختلفون، وأما إذا كان الخلاف لا يعذر فيه كالخلاف في العقائد، فإنه لا يعذر بعضنا بعضاً، بل الواجب الرجوع إلى ما دل عليه الكتاب والسنة، فعلى المرجئة وعلى الشيعة وعلى كل مبتدع أن يرجع إلى الكتاب والسنة ولا يعذر، فهذه القاعدة ليست قاعدة ذهبية، ولعلك تسميها قاعدة خشبية. عرفت الآن الذي يسوغ فيه الاجتهاد، هذا لا بأس أن نسمح للمخالف، والذي لا يسوغ فيه الاجتهاد كمسائل العقائد التي يخالف فيها الإنسان السلف لا يمكن أن يعذروا".

وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين[5] في تفسير الآية 104 من سورة آل عمران (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ):

"أما ما ينتشر عند بعض الناس من قولهم: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، ويعين بعضنا بعضاً فيما اتفقنا فيه، هل لهذه الكلمة أصل في الشرع؟ هذا غلط في الجملتين جميعاً، الجملة الأولى (يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) فهي كقول بعض الفقهاء: لا إنكار في مسائل الاجتهاد؛ لأن هذه العبارة معروفة عند الفقهاء، وهذا على إطلاقه ليس بصحيح، فما اختلفنا فيه إن كان الحق لم يتبيَّن فيه تبيناً لا يعذر فيه المخالف فهنا نعم نعذره لأنه له رأي ولنا رأي، أما إذا كان الحق واضحاً فإن من خالفنا لا نعذره في ذلك، فهي على إطلاقها غير صحيحة. وأما الثانية وهي قوله: (يعين بعضنا بعضاً فيما اتفقنا فيه) فهذا غير صحيح أيضاً؛ لأننا لو اتفقنا على باطل لم يحلّ أن يعين بعضنا بعضاً بل وجب أن ينهى بعضنا بعضاً عن هذا الباطل، فهو أيضاً على إطلاقه لا يصح، ولعلَّ الذي قاله يقصد ما ليس بباطل ولا يخالف الشريعة، لكن الجملة الأولى دخل فيها أناس عندهم انحراف في العقيدة وفي المنهج والإسلام يسعهم وقالوا: نحن يجب أن نستظل بظل الإسلام وإن اختلفنا، ولذلك تجدهم يُدخلون في حزبهم الفاسق حالق اللحية، شارب الدخان، المتهاون بالصلاة وما أشبه ذلك، وهذا خطأ، وفي المقابل الذي يريد من الناس أن يكونوا صلاّحاً في كل دقيق وجليل وإلا فليسواإخواناً لنا، وهذا أيضاً خطأ".

وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز[6] عن تلك المقولة الإخوانية في مجموع الفتاوى والمقالات (3/58)‏:

"نعم يجب أن نتعاون فيما اتفقنا عليه من نصر الحق والدعوة إليه والتحذير مما نهى الله عنه ورسوله، أما عذر بعضنا لبعض فيما اختلفنا فيه فليس على إطلاقه بل هو محل تفصيل، فما كان من مسائل الاجتهاد التي يخفى دليلها فالواجب عدم الإنكار فيها من بعضنا على بعض، أما ما خالف النص من الكتاب والسنة فالواجب الإنكار على من خالف النص بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن عملا بقوله تعالى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وقوله سبحانه : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ }، وقوله عز وجل : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وقول النبي صلى الله عليه وسلم : « من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان » وقوله صلى الله عليه وسلم : « من دل على خير فله مثل أجر فاعله » أخرجهما مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في هذا كثيرة.

وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في رده على من يقول بها منشور في "مجلة الفرقان التراثية": (العدد 77):

"هم أول من يخالف هذه الفقرة، ونحن لا نشك بأن شطرًا من هذه الكلمة صواب، وهو: (نتعاون على ما اتفقنا عليه). الجملة الأولى هي - طبعًا - مقتبسة من قوله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى. أما الجملة الأخرى: (يعذر بعضنا بعضًا)، لا بد من تقييدها... متى؟ حينما نتناصح، ونقول لمن أخطأ: أخطأت، والدليل كذا وكذا، فإن رأيناه ما اقتنع، ورأيناه مخلصًا، فندعه وشأنه، فنتعاون معه فيما اتفقنا عليه. أما إذا رأيناه عاند واستكبر وولى مدبرًا، فحينئذ، لا تصح هذه العبارة، ولا يعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه".

وقال الشيخ مقبل بن هادي الوادعي:

"وأما قول القائل: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه) فلا، لأن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ. ويقول : فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ. لا يقول حزب من الأحزاب: أنت تنازل أيها الحزب عن جميع أفكارك واتبعنا. لا، معناه أن لا تدعوه إلى تقليدك، قل له: نحن وأنت نتبع رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قل له: تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. أن لا نحكم إلا كتاب الله ولا نحكم إلا سنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - الاختلاف هلكة. روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: (ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم). وروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من حديث النعمان بن بشير - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم). وروى أبو داوود في " سننه " من حديث محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: (افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقةً، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقةً، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقةً). فالفرقة تعتبر عذابًا، وأما حديث: (اختلاف أمتي رحمة)، فحديث لا سند له، أعني أنه حديث باطل، لأن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ. مفهوم الآية الكريمة أن الذين يختلفون لم يرحمهم الله عز وجل، والنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقول كما في "صحيح البخاري" من حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رجلاً قرأ آيةً، وسمعت النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقرأ خلافها، فجئت به النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية وقال: (كلاكما محسن، ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا). فالاختلاف هلكة ويغذيه أعداء الإسلام، وتغذية المخابرات الخبيثة، ويجب على طلبة العلم أن يتبرءوا إلى الله من الحزبية، نقول هذا حتى بحت أصواتنا مشفقين على طلبة العلم أن تضيع أعمارهم في الحزبية، وأن تضيع أعمارهم في (قال: فلان، قال: فلان) نحن نريد (قال الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -)، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ. ويقول : وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ. ويقول : إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله. فالأمر خطير؛ الحزبية فرقت المسلمين، فرب شخص يكون حافظًا للقرآن مبرزًا في السنة، وبعد أن تتدنس فكرته بحزبية فإذا هو قد أصبح من جملة العامة، ربما يحلق لحيته ويلبس البنطلون ويكون مخزنًا مدخنًا، إلى غير ذلك. فحذار حذار من الحزبية، والواجب علينا أن نبتعد عنها وأن نحذر جميع المسلمين، قد تأكدنا جميعًا أن أعداء الإسلام يحرصون على التحريش بين المسلمين، النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش). فأعداء الإسلام يسلكون مسلك الشيطان في التحريش بين الجماعات، الجماعة الواحدة ما تدري إلا وقد انقسمت إلى قسمين أو إلى ثلاثة...). " وإن تشهيرنا بضلال محمد رشيد رضا المتستر بالسلفية، ليدل على أن أهل السنة ليس لديهم محاباة، وهذا بخلاف جهلة "الإخون المسلمين" الذين يدندنون بقول من قال: نتعاون فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضًا فيما أختلفنا فيه. وقوله: وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه: باطل، لأن من المختلف ما لا يجوز أن يعذر عليه صاحبه، كما هو معلوم من الشرع".

وقال الشيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي مجيبًا على سؤال عن تلك القاعدة الإخوانية:

"ثم التوحيد يبقى قائمًا بدون مصطلحات؟!! أهم شيء في الإسلام يبقى بدون مصطلحات وبدون بيانات؟؟!! فهذا الذي عارض؛ يعني أرى أنه جاهل وأنه يجمع بين التصوف وبين الإخوانية؛ لأن "الإخوان المسلمون" هم الذين يقولون: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه. وهم الذين يقولون: إيمان، إيمان، إيمان، ولا يستطيعون أن يقولوا: التوحيد والشرك؛ لأن كلمة إيمان لما يقولها يحضر اليهودي، والنصراني، وغيرهم، ولا يخجل، ولا يستاء. الإيمان بالله، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بكذا يصدّق اليهودي، والنصراني، ولا يغضب. لكن لما تدخله في توحيد الألوهية وتقول: عيسى عبد الله ورسوله ليس ابن الله، فيغضبون ويحاربونك وينفضوا عنك! إذا أحببت أن تكسبهم قل لهم: إيمان، إيمان فقط، لا تتعرض للعقيدة ولا تتعرض لتوحيد العبادة؛ يعني القبوريين لو تقول لهم: إيمان، إيمان يصفقون لك. لكن لو قلت: البدوي، الرفاعي لا يُذبح له، لا يُدعى، لا يُنذر له. فيُحاربونك. قال تعالى : وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. هذه قاعدة قديمة ومستمرة في أهل الضلال، وإن كنا لا نكفر هذه النوعيات السيئة التي أساءت إلى الإسلام بمواقفها وحروبها، فهذا كلام سيء على صاحب هذا الموقف أن يتوب إلى الله، وأن يعود من جديد لدراسة الإسلام".

وقال الشيخ عبيد بن عبدالله الجابري عن تلك القاعدة الإخوانية:

"أما تبرأ أصحاب المقالات المخالفة والشاذة، فهذا أمر حادث وأمر موجود حتى الرافضي مستعد لأن يتبرأ من كفرياته وضلالاته ولكن هذا لا يعفي، فالخطأ منه ما هو مستور مقصور على صاحبه وهذا هو الذي يكتفى فيه بنصح صاحبه فإن أحسن فلنفسه، وإن أساء فعليها. وأما ما هو ذائعٌ وفاشٍ ومنتشِر ومروجٌ له ويُنشر باسم السنة فإن السكوت عنه جناية على السنة، وأظن القائل وقع ولعله من حيث لا يشعر في قاعدة المعذرة والتعاون وهي (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه). تلك القاعدة التي هي "قاعدة المنار" أولاً ثم هي قاعدة "الإخوان المسلمين" ثانيًا، وهذه القاعدة قاعدة فاجرة ضالة مضلة سلوكها جناية على الإسلام وأهله، وقد انطلقت منها الآن الدعوة إلى وحدة الأديان والتآخي بين الأديان، فإني أنصح القائل هذا أن يراجع السنة وأن يراجع سيرة السلف الصالح وكيف معاملتهم".

وقال الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الغديان يفند تلك القاعدة الحركية الذهبية:

"هذه القاعدة، قاعدة من الوضع الجديد، يعني : ما هي من القواعد العلمية من قواعد الأولين؛ لأن هذه ممكن يستخدمها اليهود والنصارى والمسلمون، يقولون: حنا نتفق على وجود الله، خلونا نتفق على وجود الله وكل واحد له دينه، بمعنى : أن حنا نعترف بالأديان الباطلة، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الله - جل وعلا - يقول: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾، ويقول: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ﴾. ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَبَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَوَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾. فهذه القاعدة يعني: يمكن تطبيقها على ما ذكرت لكم، يعني: جميع الأديان الموجودة على وجه الأرض يتفقون على وجود الله، يقول: إن نبي نتفق على وجود الله، لكن كل على دينه يسمونهذا إباحية الأديان؛ لأن فيه: إباحية الأديان، وإباحية العقول، وإباحية الأعراض، وإباحية النفوس، إباحية النفوس مثل: ما يجري الآن من هل القتل، وإباحية الأعراض مثل: اللواط، ومثل: الزنا، مثل: رئيس دولة فيه دكتور أو بروفسور، وفيه عضو في مجلس الشورى عندهم في بلدهم، العضو الذي في مجلس الشورى تزوج البروفسور الذي يدرس في الجامعة، ورئيس الدولة يقول: إن هذا دليل على أن هذه الدولة تطبق الديمقراطية، هذه الديمقراطية اللي يدعون بها الآن، هي عبارة عن إباحية العقول من ناحية المسكرات، وإباحية الأعراض، أنا قرأت في قرار صادر من مؤتمر عقد في الصين، ومما جاء في مسألة الإباحية، مسألة الديمقراطية، ومما جاءفيه أنه يجوز للرجل أن يتزوج الرجل، ويجوز للمرأة أن تتزوج المرأة؛ فهل هذه مقاييس وضعها الله - جل وعلا - ؟ أم أن هذه المقاييس وضعها أعداء الله - جل وعلا - ؟ فنترك شرع الله في جهة ونأخذ بقوانين الخلق من جهة أخرى، هذا ما يجوز؛ فهذه القاعدة: هي مدخل لهذا الكلام الذي ذكرت لكم؛ أما بالنظر للاختلاف الفروع الفقهية التي تتجاذبها الأدلة، ويختلف فيها علماء على مستوى العلم، هذا ما فيه مانع له، لكن هل يطبقونها على ما ذكرت لكم".

وقال الشيخ حمد بن إبراهيم العثمان[7] في بيان ما يترتب عليه إعمال هذه القاعدة الإخوانية:

قاعدة مقطوعة الصلة بالسلف

قد بينا فيما سقناه من الأدلة، أن قاعدة (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) ليس عليها عمل الصحابة رضي الله عنهم؛ بل إن عملهم على نقيض ذلك تماماً، فترى أحدهم ينسب نفسه إلى الضلال إذا قال بقول غيره، مما يعلم أنه مجانب للصواب. لو طلبت من قائل هذه القاعدة بيان سلفه بها من القرون المفضلة: لما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولو كان هذا القول محموداً؛ لقاله خير القرون، وصدر هذه الأمة، وخيرتها. والله سبحانه يقول مبكتاً الكفار في إنكارهم فضل خيار المؤمنين، وربطهم الخير في أنفسهم: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ماسبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} (الأحقاف 11)؛ قال الإمام ابن كثير معلقاً: في (تفسير ابن كثير 7/27 وأما أهل السنة والجماعة؛ فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيراً؛ لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها، ـفإن قال قائل: إن السلف لم يتكلموا بهذه المقولة، لكنهم سكتوا عنها، وسكوتهم لا يدل على خطأ هذا القول! قلت: إن الأدلة التي ذكرناها عنهم تنقض هذه القاعدة، ولو قدر أنهم سكتوا عن هذه المقالة، فلا يخلو الأمر من حالتين: الأولى: أن يكونوا سكتوا عن ذلك وهو عالمون به، فيسعنا السكوت عما سكتوا عنه. الثانية: أن يكونوا سكتوا عن ذلك وهم غير عالمين به، فيسعنا أن لا نعلم مالم يعلموه (الحجة في بيان المحجة 1/100) قال أبو حامد الغزالي في شأن مالم يؤثر من الألفاظ والأقوال: (نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة 1/81) ما سكت عنه الصحابة مع أنهم أعرف بالحقائق، وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم إلا لعلمهم بما يتولد منه من الشر.

مسلك بدعي

هذه القاعدة تقتضي إعذار المذاهب المختلفة، وتسويغ خلافها، وإقرار الجميع على مهم عليه، كما يقر العلماء في مسائل الاجتهاد التي يسوغ فيها الخلاف!! وهذا مسلك بدعي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في (مجموع الفتاوى 12/466-467) وقسم آخر: أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب، أو يعرفون بعضه، ويجهلون بعضه، وما عرفوه منه قد يكتمونه، ولا يبينونه للناس، ولا ينهون عن البدع، ولا يذمون أهل البدع، ويعاقبونهم، بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين مطلقاً، وقد لا يفرقون بينما يقوله أهل السنة والجماعة، وما يقوله أهل البدعة والفرقة، أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة، كما يقر المرجئة، وبعض المتفقهة، والمتصوفة والمتفلسفة.

باب واسع للشر

لو قلنا بمقتضى هذه القاعدة لعذرنا كلمخالف! وأقررنا كل بدعة وضلالة!! والأخطاء يرقق بعضها بعضاً، ويعذر من الأخطاء أولاً ما كان أخف، حتى نعذر بعد ذلك في الأخطاء العظيمة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في (الرسالة التدمرية ص194) وإنما يظهر من البدع أولاً ما كان أخف، وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة، ـولو قلنا بهذه القاعدة لعذرنا شارب النبيذ! ولعذرنامن تزوج متعة! ومن باع الدرهم بالدرهم مع المفاضلة! ولعذرنا من أكل في رمضان بعد الفجر قبل طلوع الشمس! ولعذرنا من نكح الزانية مع استمرارها على البغاء! ولعذرنا من نكح المخلوقة من مائه سفاحاً! ولعذرنا من استغاث بالأموات! وعطل الصفات! وقال بالجبر! ونفى الرؤية! حتى نرضى بعد ذلك بأقل القليل مما مع أصحاب البدع المضلة، فنعذرهم في ضلالهم وغيهم، ونتعاون فيما بقي معهم من الإقرار بوجود الله، ضد من ينكره من شيوعيين وماديين. قال الخطابي في سياق حديثه عن النبيذ والمسكر: في (أعلام الحديث 3/2091-2092) وقال قائل: إن الناس لما اختلفوا في الأشربة، وأجمعوا على تحريم خمر العنب، واختلفوا فيما سواه نلزمنا ما أجمعوا على تحريمه، وأبحنا ما سواه! وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله، فكل مختلف فيه من الأشربة مردود إلى تحريم الله وتحريم رسوله الخمر، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «كل شراب أسكر؛ فهو حرام»، فأشار إلى الجنس بالاسم العام والنعت الخاص؛ الذي هو علة الحكم، فكان ذلك حجة على المختلفين، ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل؛ للزم مثله في الربا، والصرف، ونكاح المتعة؛ لأن الأمة قد اختلفت فيها، قال الشاطبي مبيناً مفاسد هذا التأصيل، وما يؤول إليه من تضليل: في (الموافقات 4/147) كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة بالدين، إذ يصير بهذا الاعتبار سيالاً لا ينضبط، وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم، ـقلت: والتعاون مع أصحاب البدع المضلة يوجب الألفة مع الوقت، ويوجب السكوت عن منكراتهم فيما بعد؛ لأن أولئك لا يتعاونون مع من ينكر باطلهم، وبدعهم، ويحذر الناس منهم؛ فإن النفوس تنفر من التعاون مع من يحذر منها وينكر عليها، والمرء مع من أحب يوم القيامة.

زيادة في التفرق والاختلاف

إعمال هذه القاعدة بإعذار المختلفين بإطلاق: زيادة في تفرق الأمة، وسبب لانشطار المذاهب، والملل، والأديان. فمثل هذه القاعدة لا تحسم مادة الخلاف، بل تزيده؛ مادام الكل معذوراً. والشريعة إنما بعثت لحسم مادة الخلاف، وليكون الناس أمة واحدة، قال الخطابي رحمه الله مبيناً هذه المفسدة: في (العزلة ص 57-5 فأما الافتراق في الآراء والأديان؛ فإنه محظور في العقول، محرم في قضايا الأصول؛ لأنه داعية الضلال، وسبب التعطيل والإهمال، ولو ترك الناس متفرقين؛ لتفرقت الآراء والنحل، ولكثرت الأديان والملل، ولم تكن فائدة في بعثة الرسول، وهذا هو الذي عابه الله عز وجل من التفرق في كتابه، وذمه في الآي التي تقدم ذكرها.

فتح طرق أغلقها الشرع

ذكر الله عز وجل صراطه المستقيم، وبينه أتم بيان، وأرشد إليه أحسن إرشاد، وأكمل الرسول صلى الله عليه وسلم البيان والحجة. فما ثم إلا صراط مستقيم، أو سبل معوجة. قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (الأنعام 153). فإعذار المختلفين هو إقرار ورضاً بهذه السبل المعوجة، وتضييع للصراط المستقيم. قال ابن القيم رحمه الله: في (التفسير القيم ص14-15) إن الطريق الموصل إلى الله واحد، وهو ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، ولا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق، ولو أتى الناس من كل طريق، واستفتحوا من كل باب، فالطرق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريق الواحد؛ فإنه متصل بالله، موصل إلى الله. وبإزاء هذا الكلام النوراني، كلام من يقول: لقد حجرت واسعاً! وملت بالناس إلى الحرج!! وما في الدين من حرج!! وما أشبه ذلك. قال الشاطبي معلقاً: في (الموافقات 4/142) وهذا القول خطأ كله، وجهل بما وضعت له الشريعة.

مضادة لأمر الله

إعمال هذه القاعدة في موارد النزاع والاختلاف، بأن يعذر كل مخالف بأن يبقى على رأيه الشاذ، ونحلته الفاسدة وملته المضلة؛ ليس مما أمر به الشارع، بل هو مضادة لأمر الشارع بوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة حال الاختلاف والتنازع، حتى يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويكون الكل على الصراط المستقيم والدين القويم، فهذا هو الواجب؛ أن يجعل كلام الله ورسوله هو الأصل الإمام المقتدى به، أما ما سوى كلام الله ورسوله؛ فلا يجعل أصلاً بحال. فليس لأحد أن يلزم الناس، بل ولا أن يختار لهم إعمال هذه القاعدة، واتخاذها أصلاً مع مخالفتها الصريحة لأمر الله، بالرد إليه وإلى رسوله حال الاختلاف والتنازع. وماقيمة هذه الشريعة، وما حاجة الناس إليها، إذا عذر كل من نتحل بدعة مضلة أو شبهة مفسدة، فلا يكون هناك أمر مضبوط. قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء 56). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في (محنة ابن تيمية ص1، بواسطة فقه النوازل للعلامة بكر أبي زيد 1/5 والله سبحانه قد أمر في كتابه عند التنازع بالرد إلى الله والرسول، ولم يأمر عند التنازع إلى شيء معين أصلاً. فهذا هو أمر الله وحكمه عند الاختلاف، لا أن يبقى كل مخالف على مخالفته؛ فإن هذا اختراع وابتداع، بل هو مناف لتجريد المتابعة لله ورسوله. وهذا هو الحد الفاصل بين المتبع والمبتدع؛ فالمتبع يرى أنه لا يسعه أن يقول بغير الحق، والمبتدع يسوغ جميع الأقوال الباطلة، ويعذر أصحابها.

إلغاء للسني المتميز

إعمال هذه القاعدة لا سيما مع من لم ينتصح، ولم ينزجر عن خطئه، أو بدعته، أو ضلاله سيكون سبباً في نقض أصل عظيم من أصول أهل السنة؛ وهو البراءة من المبتدعة، وتعطيل عقوبتهم الشرعية بالهجر، بل إن العمل بهذه القاعدة سيقضي على السني المتميز، فالأمر عندهم سواء ما دام الكل معذوراً، ولن تحجم بذلك بدعة، ولن تظهر سنة صافية من الكدر، فيصبح الناس في أمر مريج، لا تمييز عندهم بين السنة والبدعة، والحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، والصواب والخطإ. ومن جميل ما خطه قلم العلامة الشيخ بكر أبو زيد نفي سياق حديثه عن الأمور التي تمور بالمسلمين موراً، ما قال: في (هجر المبتدع ص 5-6) كسر حاجز (الولاء والبراء) بين المسلم والكافر، وبين السني والبدعي، وهو ما يسمى في التركيب المولد باسم (الحاجز النفسي)، فيكسر تحت شعارات مضللة مثل: (التسامح)، و(تأليف القلوب)، و(نبذ الشذوذ والتطرف والتعصب)، و(الإنسانية)، ونحوها من الألفاظ ذات البريق، والتي حقيقتها مؤامرات تخريبية، تجتمع لغاية القضاء على المسلم المتميز، وعلى الإسلام. وقال أيضاً: في (هجر المبتدع ص7) ومن أبرز معالم التمييز العقدي فيها، وبالغ الحفاوة بالسنة والاعتصام بها، وحفظ بيضة الإسلام عما يدنسها: نصب عامل الولاء والبراء فيها، ومنه إبراز العقوبات الشرعية على المبتدعة، إذا ذروا فلم يتذكروا، ونهوا فلم ينتهوا، إعمالاً لاستصلاحهم، وهدايتهم، وأوبتهم بعد غربتهم في مهاوي البدع والضياع، وتشييداً للحاجز بين السنة والبدعة، وحاجز النفرة بين السني والبدعي، وقمعاً للمبتدعة وبدعهم، وتحجيماً لهم، ولها عن الفساد في الأرض، وتسرب الزيغ في الاعتقاد؛ ليبقى الظهور للسنن صافية من الكدر، نقية من علائق الأهواء وشوائب البدع، جارية على منهاج النبوة وقفوا الأثر، وفي ظهور السنة أعظم دعوة إليها، ودلالة عليها، وهذا كله عين النصح للأمة.

عدم حصول الائتلآف

هل يحصل الوفاق والائتلآف بهذه القاعدة: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه؟ كلا، لا ائتلآف ولا اتفاق إلا بالكتاب الهادي: قال الله تبارك وتعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} (البقرة 213) قال القاسمي: في (محاسن التأويل 3/52 ثم ضلوا على علم بعد موت الرسل، فاختلفوا في الدين لاختلافهم في الكتاب، {واختلف فيه} أي: الكتاب الهادي الذي لا لبس فيه، المنزل لإزالة الاختلاف {إلا الذين أتوه} أي: علموه، فبدلوا نعمة الله، بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف. ولم يكن اختلافهم لا لتباس عليهم من جهته؛ بل {من بعد ما جاءتهم البينات} أي: الدلائل الواضحة، {بغياً بينهم} أي: حسداً. وقال قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني: في (الحجة في بيان المحجة 2/226) وكان السبب في اتفاق أهل الحديث، أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة، وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلآف، وأهل البدعة؛ أخذوا الدين من المقولات والآراء، فأورثهم الافتراق والاختلاف. ـقال الشاطبي: في (الاعتصام 2/192) قال تعالى: {واعتصموابحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، فبين أن التأليف إنما يحصل عند الائتلآف على التعلق بمعنى واحد، وأما إذا تعلق كل شيعة بحبل غير ما تعلقت به الأخرى؛ فلا بد من التفرق، وهو معنى قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.

ويقول الشيخ عبدالله بن صالح القحطاني منتقداً هذه "القاعدة الذهبية" لجماعة الإخوان المسلمين:

"إنَّ أهل البدع والأهواء يستخدمون هذه القاعدة لتبرير تعاونهم مع بني جلدتهم من المبتدعة ولا يستخدمونها أبداً مع أهل السنة والجماعة. وواقعهم خير شاهد عليهم فعلى سبيل المثال: الإخوان المسلمون يستقبلون في مساجدهم ومجالسهم الصوفي القبوري والشيعي الرافضي والحركي التكفيري ومن كان على شاكلتهم ويتيحون لهم الفرصة في إظهار عقائدهم الفاسدة علناً!! وإذا أتى الداعية السلفي السُّني يدعو إلى الله على بصيرة حاربوه ومنعوه وحذَّروا منه وعرقلوه!! فهذه القاعدة "البنَّائية" الإخوانية المبتدعة ما أوجدوها إلاَّ لتبرير تعاونهم مع الصوفية ومع الرافضة ومع شتى أصناف أهل البدع بل ومع النصارى بحجة التسامح الديني فنرى الأقباط النصارى في مصر أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين بل ويحصلون على مناصب عليا في هذا الحزب الإخواني البدعي، في الوقت الذي يُكَفرون فيه حكام المسلمين ومرجعهم الأعلى سيد قطب يُكفِّر المجتمعات الإسلامية ويحكم عليها بالردة، بينما الرحمة والشفقة منهم على اليهود والنصارى ويتجلى ذلك في قول الزعيم الإخواني يوسف القرضاوي عن اليهود والنصارى: [هم إخوانٌ لنا في العقيدة]. ففي هذه الجماعة الإخوانية شبه من الخوارج الأوائل الذين قال نبينا محمد عليه الصلاه والسلام فيهم: [يقتلون أهل التوحيد ويَدَعون أهل الأوثان]، وما الحزب الإخواني وفروعه إلاَّ جماعة خارجية جديدة تحمل في أحشائها عقائد شتى من تصوف ودعوة إلى شرك القبور ودعوة إلى التشيع ودعوة إلى الخروج ودعوة إلى بدعٍ شتى. فإذاً القاعدة الحقيقية عندهم هي: نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ولا نعذر أهل السُّنة أبداً ولا نتعاون معهم أبداً فيما اختلفنا فيه أو اتفقنا عليه".

وقال الشيخ خالد الظفيري محذراً من أهل البدع والمُحدثات[8]:

"لقد كان السلف الصالح يمتازون بمعاملتهم لأهل البدع بالشدّة والقسوة، وكانوا يعدون هذه الشدة على أهل الأهواء والبدع من المناقب والممادح التي يمدح بها الرجل عند ذكره، فكم من إمام في السنّة قد قيل في ترجمته مدحاً له: كان شديدًا في السنّة، أو: كان شديدًا على أهل الأهواء والبدع. وما كان باعثهم على هذه الشدّة إلا الغيرة والحميّة لهذا الدين، والنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. كما قال ابن الجوزي عن الإمام أحمد –رحمه الله -: « وقد كان الإمام أبو عبدالله أحمد بن حنبل لشدة تمسكه بالسنّة ونهيه عن البدعة يتكلم في جماعة من الأخيار إذا صدر منهم ما يخالف السنّة، وكلامه ذلك محمول على النصيحة للدين ». ولكن – والله المستعان – قد انقلبت هذه الموازين، وتغيرت هذه المفاهيم فأصبح اللين والموادعة لأهل البدع هي المطلوبة، بل هي الواجبة والممدوحة. وأصبحت الشدّة على أهل البدع يمتاز بها أُناس معيّنون قليلون، وأهل زماننا لهم عائبون. ولو أن أهل العلم وطلابه ابتدروا تلك البدع وأهلها بالشدّة والنهر والنبذ والطرد، لاجتثت تلك البدع من جذورها ولتوقف مدّها، ولبقيت ديارنا طاهرةً تُعمر بالسنّة وأهلها".

ويتضح مما ذكر بأن شعار جماعة الإخوان المسلمين وقاعدتهم الذهبية "نتعاون في فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه" هي عبارة جميلة وعليها مسحة عاطفية، وقَصد بها قائلها توحيد الأمة لكنها عند التأمل والتطبيق الفعلي لها فهي تؤصل الفرقة والخلاف في الأمة الواحدة. أما جزؤها الأول "نتعاون فيما اتفقنا عليه" فهذا لا إشكال فيه وهو متفق عليه على أن لا يتم الاستعانة بمشرك في الحرب. الإشكال في الجزء الثاني "ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه"، إذ: ما حدود العذر؟ وما حدود الإختلاف؟ هل يدخل فيه الرافضة أو الإباضية أو غلاة الصوفية؟ وهل كل خلاف يُعذر صاحبه؟ الحقيقة أننا لو طبقنا هذه القاعدة لما بقي مكان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ أنك لا تكاد تجد منكراً إلا وتجد له مسوغاً، بشكل أو بأخر، في أحد أقوال العلماء! فالخلاف منه ما هو سائغ، وهو ما كان مبنيا على إجتهاد صحيح في أصله بأن يكون من عَالِم وبناءً على دليل، مثل الخلاف في مدة قصر الصلاة أو بعض شروط المسح على الخفين. فهذا يكون فيه العذر ويكون الإنكار فيه ببيان الدليل وتوضيح الحجة دون شدة أو غلظة، ولا يُثَرب على صاحبه، ولو كنا نعتقد لأن قوله مبني على اجتهاد صحيح. ومنه ما هو غير سائغ ويجب رده وإنكاره بالطريقة المناسبة، وذلك مثل أن يكون الخلاف في مقابل النص، أو أن يكون وجه الاستدلال غير صحيح أو أن يكون الدليل نفسه غير صحيح. مثل تسويغ البعض دعاء غير الله و تسميته توسلاً، أو التبرك بالقبور. فهذا الخلاف غير مقبول ويجب على أهل العلم إنكاره، لأنه قول على الله بغير علم وبيانه من الميثاق الذي أخذه على أهل العلم. والسكوت عنه يعمق الخلاف في الأمة فإن هذه الأقوال بدأت بشخص واحد أو أفراد قلائل، لكن لما لم يواجهوا بالإنكار انتشر الخطأ وعَم حتى صار كالسنٌّة عند أتباعه لا يجوز إنكاره. فالسكوت عن بحث مواضع الخلاف وتبيين الأخطاء يفضي على الأمد البعيد إلى تأصيل الفرقة وتقسيم الأمة إلى مذاهب، وهو أيضا يفقد الأمة صفة من أهم صفات النجاح والفلاح وهي (التواصي بالحق)، وهو ما يحصل الآن. إذن الصواب أن تكون قاعدتنا: "نتعاون على البر والتقوى (ويدخل فيه تصحيح الأخطاء) ولا نتعاون على الإثم والعدوان"، أو نقول "نتعاون فيما اتفقنا عليه وينصح بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه".


[1] فتاوى وأحكام - موقع العلامة القرضاوى

[2] موقع إسلام ويب

[3] منتديات الإمام الآجري - شبكة الإمام الآجري

[4] موقع الشيخ محمد بن صالح العثيمين

[5] موقع الشيخ محمد بن صالح العثيمين

[6] موقع الشيخ عبدالعزيز إبن باز

[7] العثمان، حمد بن إبراهيم: زجر المتهاون بضرر قاعدة المعذرة التعاون (صفحة 109-121)

[8] الظفيري، خالد: إجماع العلماء على الهجر والتحذير من أهل الأهواء (صفحة 39-40)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق