بداية النفوذ والسيطرة

في عام 1947 قرّر الإخوان خوض الإنتخابات السورية بأربعة مرشحين فاز منهم: الشيخ معروف الدواليبي عن مدينة حلب، ومحمود الشقفة عن مدينة حماه، ومحمد المبارك عن مدينة دمشق. وبعد إنقلاب العقيد سامي الحناوي أُجريت انتخابات نيابيّة أخرى فاز الإخوان فيها بعشرة مقاعد، وشكّلوا مع حلفائهم كتلة برلمانيّة قوية كان لها تأثير كبير فى بسط نفوذ الجماعة على النقابات العماليّة والحرفيّة، وسرعان ما دخلت الجماعة مجال التعليم وقاموا بإنشاء عدد من المعاهد والمدارس في المدن السورية، واستعانوا بعدد من  المعلمين والمدرّسين الإخوان تحت مسمى "المدارس الليليّة".

وبعد وفاة حسن البنَّا سنة 1948 حاول جماعة الإخوان المسلمين في مصر مبايعة الشيخ مصطفى السباعي ليكون مرشداً عاماً لهم، إلا أنه رفض  قائلا: "إن مصر بها رجال يستطيعون تحمل هذا الأمر"[1]. وقد كان الشيخ مصطفى السباعي جسراً محلياً بين التنظيم الاخواني المصري الأم والتـنظيم الـسوري الوليد، وكانت العملية التأسيـسـية تـحت إشراف مباشر من الشيخ حسن البنَّا، ومع ذلك فقد كانت هناك تمايزات إخوانية سورية عن مصر ومنها إنفتاح أكبر على الفكرة القومية العروبية وقبول للمكونات الدينية الأخرى حيث كانت القوائم الإخوانية تضم مرشحين مسـيحيين في إنتخابات سنة 1949 وسنة 1962، ورؤية سيـاسـية وسـطية ضمت أطيافاً متنوعة إمتدت من "حزب الـشعب" إلى الـقوميـين السـوريين وبرزت تلك الوسطية بوضوح في سنوات الخمسينات بين معسكري اليسار البعثي في سورية الموالي للماركسية الشيوعية واليمين البعثي في العراق الموالي للرأسمالية الاشتراكية.

وقد حاول دائماً جماعة الإخوان المسلمون (فرع سورية) مهادنة النظام الحاكم والتعاون معه وتجنب الصدام العنيف، فبعد إنقلاب حسني الزعيم بتاريخ 30/03/1949 فى سورية، حدد الإخوان موقفهم منه من خلال مذكرة رفعوها إلى الزعيم بتاريخ 09/04/1949 طالبوا فيها العمل بمبدأ الشورى، والإسراع بعودة الحياة الدستوريّة، وتطهير أجهزة الدولة من الفاسدين، وتقوية الإيمان وبثّ الأخلاق، وتعبئة الأمّة لمواجهة الأخطار، والاهتمام بالجيش وتحصينه بالمثل العليا، وتوجيه الثقافة بما يتوافق ومواريث الأمّة، وتطوير نظام إقتصادي عادل. ونفس الأمر حصل في الإنقلاب الثاني بتاريخ 14/08/1949 بقيادة سامي الحناوي حيث كان الموقف نفسه معه من جماعة الإخوان، وقاموا بتشكيل جبهة موحّدة مع بعض الجماعات الإسلاميّة خاضت الانتخابات تحت اسم "الجبهة الاشتراكيّة الإسلاميّة"، وأعلنت في بيانها الانتخابي أنّها سوف تعمل لتحقيق الاشتراكيّة والعدالة الاجتماعيّة التي دعا إليها الإسلام، وإلى توثيق الروابط بين الدول العربيّة، وحماية إستقلالها ضدّ المؤامرات الإمبرياليّة.

وضمّت القوائم الإنتخابية للإخوان في مدينة دمشق وبقيّة المحافظات عدداً من الشخصيّات البارزة من المسلمين والمسيحيين، وفازت قائمة الجبهة الإخوانية في دمشق فوزاً كبيراً، وكانت النتائج خارج العاصمة مشجّعة أيضاً، وفشل آنذاك ميشيل عفلق المسيحي البعثي وخالد بكداش الكردي الشيوعي، وتشكّلت حكومة برئاسة خالد العظم شارك الإخوان فيها بحقيبة الأشغال العامّة والمواصلات التي أسندت إلى محمد المبارك الذي كان مرفأ اللاذقيّة في مقدمة إنجازاته وليتقلد بعدها أربع وزارات، وخاضت الجماعة معركة شرسة ضد تيار اليسار العلماني، وخاصة عند صياغة الدستور حول نص "أنّ الإسلام دين الدولة" لتنتهى المعركة بأن يتضمّن الدستور السوري ما يلي: "لمّا كانت غالبيّة الشعب تدين بالإسلام فإنّ الدولة تعلن استمساكها بالإسلام ومثله العليا"[2].

وبعد الإنقلاب العسكري الثالث بتاريخ 18/12/1949 بقيادة العقيد فوزي سلّو، والإنقلاب الرابع بتاريخ 29/11/1951 بقيادة العقيد أديب الشيشكلي الذي أصدر قراراً بتاريخ 17/01/1952 يقضي بإغلاق كافة مراكز جماعة الإخوان المسلمون (فرع سورية) واعتقال قادتها، ومنع المظاهرت الطلابيّة، وأصدر مرسوماً حظَّر بموجبه على الطلاب ممارسة أي نشاط سياسي، ثم أصدر مرسوماً حلّ بموجبه جميع الأحزاب السياسيّة، تمهيداً لقيام الحزب الواحد، واستفتى الجمهور على الدستور، وأجرى إنتخابات برلمانيّة شارك فيها 20% فقط من الناخبين!

وبتاريخ 24/02/1954 قام الرئيس هاشم الأتاسي بتمرد على الشيشكلي وكان جماعة الإخوان في طليعة القوى السياسيّة التي أيّدت الأتاسي الذي دخل دمشق واستأنف سلطاته الدستوريّة كرئيس للجمهوريّة، ليعود الإخوان لممارسة نشاطهم بقوة، حيث عمل مصطفى السباعي على توحيد الصفوف وتنظيم جماعة الإخوان المسلمون (فرع سورية).

وفي سنة 1957 إجتمع الإخوان لتحديد موقفهم من الإنتخابات التى ستجرى وعقدوا مشاورات مكثفة لاتخاذ قرار بشأن الإنتخابات وموقفهم منها، وقد حضر عصام العطار إجتماعا تمهيديا في بيت معروف الدواليبي، حضره عدة رؤساء للأحزاب ورجال الأعمال، وأصر العطار على رفض دخول الإخوان في تلك المواجهة، لأن صحة الشـيخ مصطفى السباعي لا تساعده على هذه المنافسة المحمومة، ولماذا يدخل الإخوان في مواجهة وهي حرب بإسم الإخوان! وسيتخلى عنهم الجميع عند الخسارة، لكن إنتهى الأمر بالموافقة على الدخول فى الانتخابات. وترشح فيها السباعي وكان منافسه رياض المالكي، وكانت انتخابات تاريخية وكارثية حيث انقسمت البلاد قسمين، الحكم القائم ومن ورائه الجيش والمخابرات وعبدالناصر، وفي المقابل الإخوان ومعهم بعض رجال الأحزاب وفريق من أرباب المال والأعمال، وأسُقطت نيابة أربع نواب إخوان من المجلس النيابي بعد الإنتخابات التكميلية. وكان من نتائج الفشل الذريع للإخوان وخسارتهم لتلك الإنتخابات الحاسمة إصابة الشـيخ مصطفى السباعي بالشلل.

وعلى الرغم من تولي الشـيخ مصطفى السباعي منـصب رئيس المكـتب التنـفيـذي للتنـظـيم العام للإخوان المسلمين (فرع سورية) سنة 1957 وذلك بعد ضرب الـقيادة الناصرية للتنظيم الإخواني في مصر سنة 1954 إلا أنه كان متعاوناً مع الرئيس المصري جمال عبدالناصر ومؤيداً لفكرة الوحدة المصرية-السورية! وفي فترة ما بعد إنقلاب إنفصال الوحدة بين سورية ومصر بتاريخ 28/09/1961 وقعت على وثيـقة الإنفـصال جميع الأحزاب السياسية في سورية لكن رفض جماعة الإخوان المسلمون (فرع سورية) التوقـيع عليها. وعارض عصام العطار محاولة الشيخ مكي الكتاني رئيس رابطة العلماء الذي كان من أوائل مؤيدي الإنفصال لتشكيل حركة تضم جماعة الإخوان وبعض السياسيين وأرباب الفعاليات الاقتصادية ضد الناصرية، مع أن هذه الرابطة شبه إخوانية، وعلى العكس، فقد شاركت بعض قيادات الجماعة عملياً بالتنسيق السري مع الحكومة المصرية ضد الحكومة الانفصالية في سورية.

وعن تلك المرحلة يقول منير محمد الغضبان – القيادي في جماعة الإخوان المسلمون (فرع سورية)[3]: "ولا بد من الإشارة بموضوعية كاملة إلى أن الحركة الإسلامية لم تكن تمتلك أي قوة في الجيش، وكانت تتصور أن التأييد الشعبي يكفيها قوة على الساحة السياسية. وقد عرض بعض ضباط النحلاوي (قائد إنقلاب إنفصال الوحدة مع مصر) – وذلك بعد أن فقدوا مواقعهم – على الإخوان المسلمين المشاركة بإنقلاب عسكري، ورفض الأستاذ العطار هذا العرض مؤكداً أن الحركة التي تأتي بانقلاب تذهب بانقلاب. كما أكد أن قوة الحركة الإسلامية الشعبية بعد ذهاب النحلاوي وإخوانه أكثر منها في وجودهم... لقد عايشت الأحداث في تلك الفترة، وأعتقد أن الرفض قد لا يكون حقيقة بسبب ما قاله الأستاذ العطار فقط، بل ربما لضعف ثقته بنجاح خطة الإنقلاب، ولخوفه من هيمنة العاطفة على العقل عند منفذيه. ولا ندري إذا كانت الحركة الإسلامية قد فوتت فرصة تاريخية في إمكانية الوصول للحكم عن طريق هؤلاء الضباط الشباب، لأن العلويين الذين استلموا السلطة فيما بعد لم يكونوا أحسن حظاً من الإسلاميين في الجيش".

وقد حاولت جماعة الإخوان المسلمون (فرع سورية) بالمشاركة مع كافة الفصائل الوحدوية من مستقلة وبعثية وناصرية بالتخطيط لإعادة الوحدة، وشمل التحرك: الوحدويين المستقلين، البعثيين بما فيهم القيادة القومية والقُطرية واللجنة العسكرية، الناصريين بما فيهم الوحدويين الإشتراكيين والإتحاد الإشتراكي والقوميين العرب لكنهم فشلوا جميعاً بإعادة الوحدة مع مصر. وعقد في تلك الأثناء إجتماع في دمشق لتأييد الإنقلاب العسكري الإنفصالي وكان الموقعين على بيان التأييد: أحمد قنبر، أحمد الشرباتي، أسعد هارون، بشير العظمه، حامد الخوجة، حسن مراد، خالد العظم، رشاد جبري، سهيل الخوري، صبري العلي، أكرم الحوراني، صلاح البيطار، فؤاد قدري، محمد العايش، نجيب الأرمنازي، هاني السباعي، ولم يكن منهم أي شخص من جماعة الإخوان المسلمون (فرع سورية).

قام الشـيخ مصطفى السباعي عام 1959 بتأليف كتاب (إشتراكية الإسلام) الذي كان يعتبر تسويغاً فكرياً وتشريعاً إسلامياً مُبرراً لقانون الإصلاح الزراعي الذي كان قد بدأ في مصر سنة 1952 وإنتقل إلى سورية سنة 1958 وتم تنفيذه بعد إنقلاب حزب البعث بتاريخ 08/03/1963 بموجب اللائحة التنفيذية لقانون الإصلاح الزراعي الصادرة بتاريخ 22/09/1963 الذي ينص على تحديد الملكية الزراعية للأفراد ومصادرة الأراضي من كبار المـُلاك وتوزيعها على الفلاحين الفقراء والذي عارضه آنذاك الكثير من أبناء العائلات البرجوازية الإقطاعية التي تضررت بشدة من هذا القانون وكانت متحالفة مع كبار المشائخ والشخصيات الدينية الإسلامية في سورية. وعن ذلك يقول منير محمد الغضبان – القيادي في جماعة الإخوان المسلمون (فرع سورية): "ألقى الدكتور مصطفى السباعي القائد المؤسس للإخوان المسلمين على مدرج جامعة دمشق محاضرته الكبرى: اشتراكية الإسلام، والتي أخرجها فيما بعد في كتابه المشهور، والتي تبنتها دولة الوحدة واستغلتها لتبرير قرارات التأميم التي أصدرتها"[4].

ويتضح مما سبق أن جماعة الإخوان المسلمون (فرع سورية) قد انخرطوا بالعمل السياسي منذ عام 1946، وكان لهم نواب في البرلمان السوري آنذاك، وشاركوا في تشكيلات الحكومة السورية حتى عام 1963 عندما إستولى حزب البعث على السلطة عبر إنقلاب عسكري، وتسبب ذلك بإلغاء ‏التعددية السياسية والاقتصاديّة وقيام دولة الحزب الديكتاتوري الشمولي في ‏سورية بمفاهيم ماركسية لينينية، ومنذ ‏ذلك الإنقلاب رزحت الحياة السياسية في سورية تحت حكم حزب ‏البعث بسلطة دكتاتورية قمعية مباشرة بدون إنتخابات ‏ديمقراطية.


[1] الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين

[2] إنظر كتاب عامر، حافظ موسى: الدستور الإيراني في ميزان الإسلام عصمة الإمام في الفقه السياسي الشيعي دراسة ‏مقارنة - مكتبة الإمام البخاري للنشر والتوزيع، 2006‏

[3] الغضبان، منير محمد: سورية في قرن.. من بداية القرن إلى العهد الطائفي – 2006 (صفحة 204-205)

[4] الغضبان، منير محمد: سورية في قرن.. من بداية القرن إلى العهد الطائفي – 2006 (صفحة 184)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق